بقلم: نصر شمالي
شهد الأسبوع الماضي جملة من الأحداث المستجدة في فلسطين المحتلة كان أبرزها ذلك التطور "السلمي" المفاجئ في خطاب شارون، وتلك المغادرة "الصحية" المفاجئة للرئيس ياسر عرفات إلى فرنسا من أجل العلاج كما أكدت الأطراف جميعها بحزم! غير أن الصلة بين خطاب شارون أمام الكنيست وخروج الرئيس عرفات بعد يومين فقط لا يمكن أن تخفى على متتبع ملمّ ببعض أساسيات المواجهة العربية/ الصهيونية في هذه الحقبة من تاريخها المديد، كذلك لا يمكن أن تخفى عليه الصلة الوثيقة بين هذين الحدثين وبين الجدل المرير الدائر في واشنطن بصدد الاضطراب العظيم الذي أصاب السياسة الخارجية الأميركية، حيث هذا الجدل من أبرز الأوراق الانتخابية في أيدي المرشحين للرئاسة، وهكذا فإنه لمن السذاجة عدم الربط بين مستجدات فلسطين المحتلة وبين الانتخابات الأميركية التي تليها بأيام قليلة!
الكيان الصهيوني يحتاج إلى لينكولن!
كان ما حدث في جلسة الكنيست الإسرائيلي، التي خصصت للتصويت على مشروع الانسحاب من غزة، أشبه بالانقلاب بالنسبة للكثيرين، فقد فاجأ شارون جميع الذين يعرفون طبيعته الإجرامية بإعلان تأثره وأسفه لما يعانيه الشعب الفلسطيني، واستعداده لمواصلة "العملية السلمية" في حال ظهور شريك فلسطيني! كذلك فاجأ الكثيرين بانتقاداته المباشرة للمستوطنين اليهود، وللقوى السياسية التي تساندهم وتحرضهم على العصيان، من دون أن ينكر أنه كان دائماً الراعي الأول للاستيطان! بل هو ذهب إلى أبعد من ذلك فاعترف أن مواقفه كانت تحريضاً على اغتيال اسحق رابين رئيس الوزراء الأسبق، وأنه يعتذر اليوم عن ذلك!
لقد قدّم شارون في تلك الجلسة مشروعه بالانسحاب الأحادي من غزة، وتمنى على الكنيست أن يقرّه، فكان له ما أراد بفضل تأييد حزب العمل (المعراخ) وقد بدا غير آبه للمؤامرات التي كانت تحاك ضدّه من زملائه في قيادة حزب التجمع (الليكود) حتى الثواني الأخيرة التي سبقت إقرار المشروع، كذلك بدا غير مهتم بتواتر الأخبار حول احتمالات اغتياله! وبينما بدا حزبه على وشك الانهيار، وحكومته على وشك السقوط، ظلّ هو صامداً واثقاً، فما تفسير ذلك؟ تفسيره هو أن شارون ينفّذ توجيهات القوى الأميركية الفعلية، ذات النفوذ الحاسم الفعلي الذي يظهر في المنعطفات الخطرة من دون أن يظهر أصحابه! إن القوى الفاعلة استراتيجياً في الولايات المتحدة لا تظهر في الصور، ولا تلقي خطابات، ولا تعطي تصريحات، وهي عندما توعز فإن إيعازاتها لا تقبل التردّد في التنفيذ الفوري، ويقيناً لو أنها أرادت نقل اليهود من فلسطين إلى قارة أخرى لتحقق ذلك على الفور من دون حرب ولا ضرب، لكنها بالطبع لا تريد ذلك! وليست مصادفة أن صحيفة "هاآرتس" قالت أن اليهود يحتاجون اليوم إلى رئيس من طراز ابراهام لينكولن يقود الحرب الأهلية المحتملة ضدّ المتطرفين ولصالح الديمقراطية!
المفاوضات من دون مقاومة!
على الصعيد الفلسطيني كانت هناك إشارات صريحة وعلنية، منذ أيلول/ سبتمبر الماضي، إلى احتمال مغادرة الرئيس عرفات، وكانت تلك الإشارات متصلة بتطورات الوساطة المصرية، فقد عبّر بعض القادة الفلسطينيين عن عدم الموافقة على ظهور المقاومة المسلحة أصلاً، حيث لا يوجد حدّ أدنى من التكافؤ في القوى العسكرية المتقابلة، وبالتالي فإن المستطاع هو سيطرة أجهزة السلطة على أوضاع قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي، والاستعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات من أجل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة! وهنا لا يمكن عدم الربط بين مواقف هؤلاء القادة الفلسطينيين وبين التصريحات التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في لحظة انعقاد الكنيست لإقرار الانسحاب من غزة، فقد قال أمام حشد من اليهود الأميركيين في كنيس فلوريدا:" إن السنوات الأربع الأخيرة (سنوات الانتفاضة) لم تكن صعبة فقط بالنسبة لأميركا، بل كانت صعبة أيضاً على الإسرائيليين"! وبعد أن دعا لانتخاب المرشح الديمقراطي للرئاسة أضاف:" إن قيادة أميركية قوية ضرورية لمساعدة الإسرائيليين في إيجاد شريك للسلام من بين الفلسطينيين"! وقد وصف كلينتون سنوات الانتفاضة بأنها زمن ملتبس بالنسبة للإسرائيليين الذين لم يجدوا أمامهم شريكاً فلسطينياً لتحقيق السلام، حيث بدأت الانتفاضة وكل العنف! لقد أراد كلينتون القول أن إدارة بوش ارتكبت خطأ استراتيجياً جسيماً حين جنحت في فلسطين إلى الخيار العسكري وحده، واتخذت موقفاً إسرائيلياً محضاً معلناً، بينما يفترض بأية إدارة أميركية أن تحافظ على موقعها الظاهري كطرف ثالث وسيط، فتقدّم الدعم المطلق للإسرائيليين وتؤثر في الوقت نفسه تأثيراً شديداً في مواقف القيادات العربية، فتعطل إرادة المقاومة، وتكفل التفوق والتقدم الإسرائيلي، وتضمن زوال الشعب الفلسطيني الحرّ المستقل بالموت البطيء إنما المؤكد!
العودة إلى الخداع والتضليل!
وبينما شارون يلقي خطابه الانقلابي في الكنيست، وبينما كلينتون يطمئن اليهود الأميركيين أن المرشح الديمقراطي سوف يحمي مصالحهم ويضمن انتصارهم، كان الرئيس بوش، في الوقت نفسه، يحاول تلميع صورته السلبية التي أحرجت الولايات المتحدة أشدّ الإحراج، فقد اعتذر عن استخدامه تعبير "حملة صليبية" موضحاً أن الحرب التي يخوضها ليست دينية بل حرباً ضدّ أشخاص أشرار، وقد راح يعدّد أسماءهم وياللعجب! وكان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قد انتقد بشدّة إدارة بوش "الأصولية المتطرفة التي تشن حروباً غير ضرورية، مثل الحرب على العراق"! وفي إشارة إلى التطورات التي شهدتها فلسطين في سنوات الانتفاضة قال كارتر أنها نجمت عن الترجمة الغبية للكتاب المقدس، فأدى ذلك إلى التدهور الدامي والمكلف والبشع! وأوضح كارتر أن كل رئيس أميركي – عدا بوش الإبن – اتخذ موقفاً متوازناً نسبياً بين الإسرائيليين وأعدائهم، مع الدعم القوي الدائم للإسرائيليين ومع الإدراك أن علينا التفاوض والعمل بين الإسرائيليين وجيرانهم حتى يمكن الوصول إلى حل سلمي! يقصد القديس كارتر، بالطبع، حتى فناء الشعب الفلسطيني من دون مقاومة!
الآن، يبدو أن الاستعدادات قائمة للعودة إلى أسلوب الخداع والتضليل، لتطويق المقاومة وإخمادها، واستبدالها بشريك فلسطيني في "عملية السلام" التي سوف تتواصل حتى اضمحلال الشعب الفلسطيني وزواله العملي! لكنهم يبدون في حالة ارتباك واسع واضطراب عظيم، فالعودة إلى زمن مضى هي دائماً شبه مستحيلة، والمقاومة العربية والإسلامية خرجت عن الطوق، وامتلكت الكثير من شروط الاستقلال والاستمرار والفعالية، الأمر الذي يجعل محاولاتهم ومناوراتهم غير قابلة للنجاح.