بقلم: نصر شمالي
على مدى العامين الماضيين، في خلواتي وحيداً مع أوراقي، ظلت صورة راشيل كوري تنتزعني من استغراقي بين حين وآخر، فقد وضعتها على مقربة من مكتبي إثر مصرعها في 16 آذار/ مارس عام 2003، وكنت قد قطعتها، بل قطفتها كزهرة، من إحدى الصحف اليومية. ولأنها صورة من القياس الصغير، بحجم صورة البطاقة الشخصية (أسود وأبيض) فقد أرسلتها توّاً إلى جهاز النسخ لتكبيرها بحجم صفحة "فول سكاب"، وإذا بي ببساطة أحقق نتيجة مدهشة، فأحصل على لوحة بدت لي نادرة! لقد وجدتني أمام صورة لا علاقة لها بتاتاً بالأصل، وكلما أمعنت النظر فيها بعد التكبير تكشّفت لي عن خلايا ونمنمات وملامح وتعابير ملفتة شديدة التأثير، لم تظهر في الأصل الصغير أبداً، يظللها جميعها دون أن يطمسها خليط متداخل من الغبش الموحي والوضوح المتواري. لقد غدت – كما أراها – لوحة فنيّة مهمة، بينما قد لا يراها غيري كذلك، فسطوع الحياة القوي، وصخب لحظة القتل الوحشي، ثم هدأة الموت الرهيبة، تتعانق جميعها في مشهد واحد! إن النظرة الغريبة المهيبة، القوية المتألمة، تطل من عيني راشيل الحزينة مجسّدة هذا العناق في تناغم نادر! أتوقف عن العمل كأنما باغتني نداء مقلق غير متوقع، وألتفت إلى الصورة وأحدّق وأتعجب! إنها تبدو لي كما لو التقطت في سياق تمهيد مسبق لحادث القتل الفظيع، وكأن راشيل كانت على علم بما سيحدث، علماً أن الصورة التقطت قبل عام من مصرعها! يالها من تعابير تلخّص كل شيء، ويالها من نظرة مشبعة بالأسى تفسّر كل شيء! أتململ، وأعجز عن التركيز في عينيها، فأشيح بوجهي وأتمتم مضطرباً: معذرة راشيل، أنت تعرفين ظروفنا، فنحن مقصرون بحقك، ولكن اطمئني أيتها الروح الطاهرة، وعهداً لن يضيع دمك هدراً!
قدّمت روحها بإرادتها!
الشابة راشيل كوري مواطنة أميركية، لم تطق روحها العذبة هذه الهمجية الإبادية الصهيونية التي تلوث مناخ العالم أجمع بالسموم ولم تستطع أن تكون غير معنية بفلسطين وإلا أهلكها الإحساس بالتواطؤ والعار، وهكذا اندفعت مع أمثالها من الشجعان الأوفياء لمثلهم الإنسانية إلى فلسطين المحتلة، لفعل ما يمكن فعله في مواجهة قطعان الوحوش، ولكن ما أقلّ ما يستطيع أمثالها فعله أمام جرائم تاريخية تشرف على تنفيذها وترعاها حكومة واشنطن!
لقد أرادت راشيل كوري إعلان براءتها مما ترتكبه حكومتها من جهة، وتأكيد انحيازها إلى المظلومين الفلسطينيين من جهة ثانية، أما إذا استطاعت المساهمة في التخفيف من عذابات الأطفال والنساء والشيوخ، المشردّين والمثخنين بالجراح والمحتضرين، فإن مثل هذا التخفيف يستحق الاستشهاد من وجهة نظرها بطيبة خاطر، وهذا ما يفسّر وقوفها بثبات في وجه الجرافة العملاقة الأميركية الإسرائيلية، وهو موقف موثّق بالصور الفوتوغرافية!
أرادت راشيل كوري أن تقول لقادة الجرافة المسلحة المدمرّة أن عليهم سحق جسدها قبل وصولهم إلى البيت الفلسطيني وتدميره وتشريد سكانه، وقد فعلوا ذلك حقاً! ترى، هل خطر ببال راشيل أنهم قد يرتدعون؟ لا أعتقد ذلك! فهي شاهدت من الجرائم ما يكفي كي تقتنع تماماً أنهم مجرد قطعان وحشية لا تتورع عن ارتكاب أية جريمة بحق أي إنسان! لقد قررت راشيل، قطعاً، أن تلك اللحظة تستحق تضحيتها بحياتها، كي تكون شاهداً خالداً على الأقل، ويالها من شهادة ممهورة بدمها كله، وليس بقطرة منه!
الإدارة الأميركية هي القاتلة!
تقول إليزابيت، قريبة راشيل كوري، أنها مع نهاية كل شتاء وقدوم كل ربيع في حياتها سوف تقف أمام ذكرى عملية القتل الوحشي، حيث دهس الجنود الإسرائيليون راشيل بجرافة تزن تسعة أطنان، بينما هي تقف واضحة، غير مسلحة، مرتدية سترتها البرتقالية الفوسفورية، لتحمي منزلاً فلسطينياً جاء دوره في عمليات التدمير المنظمة التي يمارسها الجيش الإسرئيلي! تقول إليزابيت: في الحقيقة، يظهر قتل راشيل ما حدث وما لم يحدث من وقائع إجرامية غير أخلاقية ومفزعة!
لقد قتلت راشيل في معرض تنفيذ العقوبات الجمعية ضدّ شعب بأكمله، ذنبه كله أنه يريد العيش حراً على أرضه، وفي معرض عمليات هدم المنازل التي كانت قد شرّدت حتى ذلك التاريخ إثني عشر ألف فلسطيني! لقد دهست راشيل بجرافة عملاقة، من نوع كاتربلر، مصنوعة في الولايات المتحدة، مثل الرشاشات الثقيلة التي انهمر رصاصها كالمطر على جسد الطفل محمد الدرة، ومثل الطائرات قاهرة الجيوش التي استهدفت قنابلها الشهيد الإمام أحمد ياسين المقعد على عربته، العائد من صلاة الفجر! إن هذه الجرافات والرشاشات والطائرات والدبابات ترسل من الولايات المتحدة إلى الكيان الصهيوني في نطاق الدعم السنوي لقطعان الوحوش، الذي يقارب أربعة مليارات دولار! تقول إليزابيت كوري أن هذه المليارات تأتي من دافع الضرائب الأميركي، وبدلاً من أن تستخدم الجرافة للبناء تستخدم لتدمير بيوت الفلسطينيين، ثم لقتل الناشطين الأجانب غير المسلحين، بما فيهم الأميركيين، الذين يدافعون عن حقوق الإنسان، ويحتجون على تمويل الجرائم التاريخية بأموالهم!
قضيتها أمانة في أعناقنا!
ولكن، لقد بّرىء الجيش الإسرائيلي من جريمة قتل راشيل كما هو متوقع وكما جرت العادة، ولم يسمح الصهاينة بتحقيق مستقل في قضية قتل مواطنة أميركية (بينما في لبنان يريدون تحقيقاً مستقلاً دولياً!) أما إدارة بوش فقد التزمت الصمت المطبق حيال هذه الجريمة وغيرها، أي أنها موافقة على عملية القتل التي نفذت عن سابق تصميم، وعلى الأغلب بإيعاز منها! طبعاً، فالإدارة الأميركية أشدّ قسوة على المعترضين من أبناء جنسها، كما هي عادة الطغاة المجرمين في كل زمان ومكان! ويجدر التذكير بأن قتل النشطاء، المتطوعين للدفاع عن الحق والعدل، لم يقتصر على راشيل، بل هناك بريان أفيري من نيويورك، وتوم هورندل البريطاني الذي أطلقت النار على رأسه، وجيمس ميلر البريطاني أيضاً، الذي توفى متأثراً بجراحه، وغيرهم ممن قضوا أو نجوا! والآن تصوروا هؤلاء الصهاينة وهم لا يملون الكتابة والتصريح عن الأيدي الفلسطينية الملطخة بالدماء!
تقول إليزابيت كوري: على الأميركيين أن يسألوا أنفسهم كيف يقتل مواطن أميركي لديه حصانة بأيدي جندي إسرائيلي تابع لدولة حليفة تتلقى مساعدات أميركية هائلة، مستخدماً في القتل منتجاً أميركي الصنع، ومدفوع ثمنه من الضرائب المفروضة على الأميركيين؟!
غير أن مثل هذا السؤال ليس مطروحاً على الأميركيين فحسب، بل مطروح على العرب والمسلمين بالدرجة الأولى، حيث راشيل كوري دخلت في نسيج قضيتنا العادلة، وهي عوملت كذلك فعلاً، سواء أكانت أميركية أم بريطانية أم فرنسية، وسواء أكانت مسيحية أم موسوية أم مسلمة، فإذا كنا نعتقد أن قضيتها أمانة في أعناقنا، وهي كذلك، وإذا كنا نعتقد أن دمها لا يجوز أن يضيع هدراً، وهو كذلك أيضاً، فإن الواجب يلزمنا، أول ما يلزمنا، أن يتفق اعتقادنا مع سلوكنا في جميع الميادين: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والقتالية أيضاً.