بقلم: نصر شمالي
بالأمس القريب، خاطب رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق مناحيم بيغن القوات الصهيونية قائلاً:" أنتم الإسرائيليون لا ينبغي لكم أن تكونوا رؤوفين حين تقتلون عدوكم. ينبغي عليكم أن لا تعطفوا عليه ما دمنا لم نقض بعد على ما يسمى بالثقافة العربية وما دمنا لم نبن بعد على أنقاضها حضارتنا نحن"!
هل ثمة ما هو أبلغ من فحيح الأفعى هذا لتفسير ما تتعرض له أمتنا اليوم في فلسطين والعراق، وما يبيّت لها في المملكة السعودية وسورية ولبنان وبقية الأقطار العربية والإسلامية؟ وإذا كان إيقاف القتل مشروط بالقضاء على ثقافتنا العربية الإسلامية، ومشروط بنهوض "حضارتهم" على أنقاضها، فهل يعني ذلك سوى أنه سيتوقف تلقائياً وبداهة بعد إباداتنا؟!
قد يرى البعض في خطاب بيغن مبالغة سياسية، وشططاً فردياً تكتيكياً لا يؤخذ على محمل الجدّ، لكن الصهيوني الآخر، رئيس إدارة التوجيه في الجيش شموئيل جونين، خاطب بدوره قطعان الحرب قائلاً:"مهمّ جداً بالنسبة إليّ أن يبقى شعب "إسرائيل" حياً إلى الأبد، ولا يهمني إن بقيت أو لم تبق شعوب أخرى"! بل إن مثل هذه التعبئة الإبادية سياسة ثابتة يلتزمها جميع القادة الصهاينة وتزخر بها جميع كتاباتهم وخطاباتهم منذ كان الكيان الصهيوني لا يزال فكرة وحتى يومنا هذا، فهي القاعدة الستراتيجية الثابتة، وأما الذي يختلف عنها فهو الإستثناء التكتيكي المتحرك الذي تفرضه ظروف قاهرة، ويستمر ريثما يتحقق التغلب على مثل هذه الظروف!
الإرهاب هو سائلهم اللمفاوي!
وقد يرى البعض في المنطق الصهيوني اليهودي الإبادي ما لا يتفق مع منطق "الحضارة" الأوروبية الأميركية، وبالتالي فهو مجرّد كلام في الهواء لن يسمح الأميركيون وحلفاؤهم أن يتحوّل إلى أفعال، غير أن هذا البعض ينسى بأن الكيان الصهيوني نهض كتكرار لتجربة الإبادة والاستيطان الأميركية الناجحة، وأنه نهض باعتباره قلعة "حضارية" أوروبية أميركية في وجه "البربرية" الآسيوية الأفريقية، وقد حدّد الصهيوني الأعظم، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل، في مذكراته سلفاً، قبل تأسيس الكيان الصهيوني، ليس المرجو "حضارياً" من الكيان فحسب، بل أيضاً حجم سكانه ومساحة الأراضي العربية التي يجب أن يستولي عليها، فقال:"إذا أتيح لنا في حياتنا – وهو ما سيقع حتماً – أن نشهد مولد دولة يهودية، لا في فلسطين وحدها بل على ضفّتي نهر الأردن معاً، تقوم تحت حماية التاج البريطاني، وتضم نحو ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين من اليهود، فإننا سوف نشهد بذلك وقوع حادث يتفق تمام الإتفاق مع المطامح الحيوية للإمبراطورية البريطانية"!
إن القاعدة الستراتيجية الثابتة هي هذا الذي قاله تشرشل، وهي ما يقوله اليوم الرئيس الأميركي بوش بوضوح تام عن العراق وفلسطين، أما الذي جمع في قوله الإستثناء والقاعدة فهو وزير الدفاع الصهيوني الأسبق موشي دايان، حين قال:"إن الأعمال الإرهابية هي سائلنا اللمفاوي الحيوي، وبدون هذه الأعمال سوف نتوقف عن كوننا شعباً محارباً، وقد يترك المستوطنون المستوطنات. يجب أن نخبر المستوطنين أن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ترغبان في أخذ "النقب" منا. من الضروري إقناع شعبنا أننا في خطر. إن الأعمال الإرهابية هي شرياننا الحيوي. إنها ضرورية للإبقاء على توتر عال بين سكاننا وفي الجيش. إنها ضرورية لإقناع شبابنا أننا في خطر"!
مخزن العبيد الأفريقي الإسلامي
ليست الستراتيجية الإبادية الصهيونية سوى استمرار للستراتيجية الإبادية التي وضعها ونفذها سادة هذا العصر على مدى القرون الخمسة الماضية. فحين كان البرتغاليون والفرنسيون يتحاربون من أجل الاستيلاء على أراضي القارة الأميركية نجح الفرنسيون في استمالة قبائل جنوبية متوحشة إلى جانبهم، هي قبائل "البوتيغوارا"، حيث حين تأكدت لهم رغبة تلك القبائل في أكل لحوم البشر رتّبوا لها خدمة منتظمة تنقل زنوجاً من غينيا (المسلمة المتحضرة) يقدمونهم لها مأكلاً! أما الداهومي، البلد الأفريقي المسلم الآخر، فقد كان مخزناً لتزويد البرازيل وغوايانا والمارتينيك وسان دومينغ بالعبيد!
كان الداهوميون شعباً متقدماً، مسلماً، يتعاطى الصناعات الحرفية والتجارة، ويبيع منتوجاته للعرب في الشمال ولممالك الشرق والغرب الأفريقية، وكانت حكومته تفرض الرسوم الجمركية على البضائع المنقولة والأسواق وتجبي الضرائب، وكانت للداهوميين نقاباتهم وجمعياتهم التعاونية: النساجون والخياطون والنحاسون والحدادون والخزافون، والفنانون الذين يصنعون التماثيل المنقوشة.. الخ، ولكن شيئاً من كل هذا لم يشفع لشعب الداهومي، وتقرر مصيره كالقطعان تماماً بل أسوأ بكثير!
لقد كان عدد المستعبدين الأفارقة الذين شحنوا إلى البرازيل فقط ما بين الأعوام 1570 – 1670 في حدود الأربعمائة ألف إنسان، أي بمعدّل أربعة آلاف إنسان في كل عام، ولم يتجاوز معدّل حياة الأفريقي المستعبد في البرازيل السنوات السبع، وقد نجم عن تلك الحقبة "الحضارية" إبادة ما ينوف عن مائة مليون إنسان أفريقي قضوا نحبهم في أفريقيا وأميركا. لقد أبيد خلال ذلك القرن من الزمن، في أفريقيا وحدها، أكثر من أربعين مليوناً!
وهكذا نرى مدى انسجام ما نطق وينطق به أمثال تشرشل وبيغن ودايان وشارون وبوش مع فحوى الستراتيجية "الحضارية" الأوروبية الأميركية، ونفهم أبعاد العمليات "الديمقراطية" الني يمارسونها في فلسطين والعراق وغيرهما من الدول العربية والإسلامية، فالدول "المارقة" حسب تعبير بوش هي تلك الممتنعة على عمليات الإبادة، التي لا تستحق العطف قبل أن يقضى على ثقافتها، أي على وجودها، وقبل أن تتحول إلى مجرّد آثار يستمتع بزيارتها السائحون المتحضرون!
لماذا لجأوا إلى الإستثناء؟
ولكن هاهم في فلسطين والعراق، بعد أن نزلوا إلى الميدان بكل ثقلهم عدداً وعدة، واستخدموا جميع أسلحتهم ما عدا القنابل النووية من دون أدنى قدر من الرأفة بالأطفال والنساء والشيوخ، يتراجعون فجأة، ويعلنون عن تسويات سياسية تأخذ الفلسطينيين والعراقيين بالإعتبار، فما الذي حدث ليلجئهم إلى الاستثناء المتحرّك المخادع بدلاً من المضي قدماً في تنفيذ الستراتيجية الإبادية الثابتة؟ بالطبع، إنها الإرادة الجمعية الميدانية التي عجزوا عن تفكيكها وبعثرتها، فعجزوا بالتالي عن كسرها وإتلافها، وبما أنهم كانوا على يقين من أنها لن تصمد أمام أهوالهم السياسية والعسكرية فقد اضطرب يقينهم أيما اضطراب!
لقد حدث في الماضي كثيراً أن لجأ الإباديون المتحضرون إلى الاستثناء خداعاً وتضليلاً، غير أن ذلك كان يحدث للتقليل من تكاليف معارك محسومة ومضمونة النتائج سلفاً لصالحهم، أما اليوم فقد زجوا في الميدان الفلسطيني والعراقي بكل احتياطاتهم من أجل كسر الإرادة الجمعية الميدانية التي تبلورت لأول مرة بهذا المستوى الفعال القهّار، ولذلك فإن لجوءهم حالياً إلى الاستثناء التكتيكي له معنى آخر، فالمعارك السابقة المحسومة سلفاً بنتيجة واحدة مضى زمانها، وهم اليوم أمام معارك لم تعد محسومة سلفاً، بل صارت تحتمل حقاً إحدى نتيجتين، إما لهم وإما عليهم، وحتى إذا انتهت لهم في هذه الجولة، وهو أمر غير مؤكد، فإنها لن تكون كذلك قطعاً في الجولات التي تليها!